مفهوم التربية الحديثة
أ. سحر جميل
مسؤول الإرشاد التربوي مدارس الأقصى باشاك شهير

بسم الله الرحمن الرحيم
قبل أن نبحر في رحاب هذا المنهاج الرباني العظيم، نعرّج قليلاً على مفهوم التربية ومعناها؟؟
وإلى أي شيءٍ تهدف؟؟
فالتربية لغةً لها ثلاثة معانٍ:
أولاً: رَبى يربو بمعنى زاد ونما.
ثانياً: رَبى يرْبى على وزن خَفي يخْفى ومعناها نشأ وترعرع.
ثالثاً: ربَّ يربُّ على وزن مَدَّ يمدُّ بمعنى أصلح وتولى الأمر.
وممّا سبق يمكن القول:
بأن التربية عملية بناء الطفل شيئًا فشيئًا إلى حد التمام والكمال وقد جمعنا المعنى اللغوي للتربية بكلمة (بناء) لأنها تعني بذل الجهد، ووضع الشيء في مكانه، ومتابعة النظر إليه بالرعاية والإصلاح بعيداً عن الإهمال.
(وشيئًا فشيئًا) على سبيل التدرج في البناء.
ثم إلى حد (التمام والكمال) وهو الحد الذي يصل فيه الطفل إلى التمسك بشرع الله تعالى من ذاته فيحاسب نفسه بنفسه ويراقبها ويتابعها وفق منهج الله عز وجل…
من هذا المنطلق نوجز المفهوم الإسلامي للتربية:
بأنها عملية بناءٍ للإنسان عقليًّا وفكريًّا، وجدانيًّا وقلبيًّا، جسديًّا ومهاريًّا، مهذبًا بالعقيدة الصحيحة السليمة، مدعمًا بالأخلاق القويمة… لماذا…؟؟
لأن العقيدة السليمة + الأخلاق الراقية = الفرد الحضاري الذي يمثل نواة المجتمع الفاعل تطلعاً لتغيير الواقع الآني للأمة الإسلامية من الضعف والهوان إلى القوة والتمكين لبناء المجتمع الإنساني الفاضل.
ولقد أدرك سيدنا إبراهيم -عليه السلام- أهمية التربية والتعليم في بناء الفرد والمجتمع للوصول إلى أمة حية خلّاقة، فدعا للأمة المسلمة بأن يبعث الله فيهم رسولًا (مربيًا) لقوله تعالى: (“رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”) .سورة البقرة:129.، لذلك قال النبي محمد صلى الله عليه وسلّم: (أنا دعوة أبي إبراهيم)، فجاء عليه الصلاة والسلام معلّمًا للأمة مربيًا على الخير ومطهرًا للنفوس من أدرانها مما نتج عنه جيلًا من الصحابة كانوا مضربًا للمثل نستضيء بهم الطريق لأنهم تربوا تربية مستوحاة من نهج النبوّة التي وجهت الكبار وعززت نفوس الصغار، لقول الصحابة الشباب عن أنفسهم (كنا صغارًا عند رسول الله فرُبِّينا على الإيمان فلما كبرنا وتعلمنا القرآن ازددنا إيمانًا مع إيماننا).
إذن تربوا على سلوك متوازن يجعل من الدنيا مزرعة للآخرة وجسراً للمرور إلى الدار الخالدة مصداقاً لقوله تعالى: (“وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ”) .سورة القصص.77. من هنا جاء الشعور بقيمة الفرد وقيمة توجيهه وإرشاده بما يتناسب مع التغيرات العالمية السريعة حولنا فلا تقتصر التربية على نفس الأسلوب الذي تربينا عليه، وقد تنبه لذلك صحابة رسول الله الكريم صلى الله عليه وسلم الذين فهموا أن لكل مقامٍ مقال ولكل زمانٍ سمة خاصة به حيث قالوا: (لا تقصروا أبناءكم على تربيتكم فإنهم جاءوا لزمانٍ غير زمانكم) بغض النظر طبعاً عن الثوابت التي يجب أن يُربى عليها كل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي من دين وخلق وقيم ومُثُل لا يمكن التفريط بها أو تغافلها.
فالمنهجية الصحيحة في التربية السليمة -كما ذكرنا سابقاً- قوامها عقيدة راسخة وأخلاقًا حميدة وفهمًا عميقًا يُفجِّر الطاقات الراقية الإيجابية ويكبح الشهوات ويرفع الهمّة للخير في الآباء والأبناء معًا.
وعليه كان لابد لنا من أن نربي أبناءنا على المقومات الإيمانية ونغرسها في نفوسهم منذ الصغر فهي التي تحفظهم وتحميهم -بعد الله تعالى- من الفتن والزلات تلك المقومات التي تطرق إليها الدكتور طارق السويدان في إحدى حلقاته وهي:
- العقيدة الموافقة للفطرة.
- العبادة الدافعة للعمارة.
- الإيمان المقترن بالعمل.
- العلم الذي لا يكفِّر.
وذلك بجانب المقومات التشريعية والتي هي:
- عقل يتوافق مع العلم.
- التشريع المحقق للمصالح.
- العدل المؤيد للإحسان.
- الحقوق المتوازنة مع الواجبات.
نختم بوقولنا أن التربية بحر شاسع وعلم لا يُشرح في سطور… فهو يحتاج منّا تبحرًا عميقًا وتبصرًا دقيقًا في مفاهيم ونظريات التربية ويكفي هنا أن نشير إلى بعض المفاتيح التربوية لصناعة الأسرة وبناء الجيل بما يناسب هذا المقام، وذلك ما سنتناوله -إن شاء الله تعالى- في المقالات القادمة من سلسلتنا التربوية.